الإلحاد: تاريخه.. أسبابُه! ج1

الإلحاد هو وصف لأي موقف فكري لا يؤمن بوجود إله واعِ للوجود، أو بوجود “كائنات” مطلقة القدرة (الالهة)، والإلحاد بالمعنى الواسع هو عدم التصديق بوجود هذه الكائنات (الالهة) خارج المخيلة البشرية. لأن شرط العلم (بحسب أفلاطون) هو أن يكون المعلوم قضية منطقية صحيحة، مثبتة، ويمكن الاعتقاد بها، ولما كان ادعاء وجود إله، بحسب الملحد، غير مثبت فإن التصديق بوجود إله ليس علمًا وإنما هو نمط من “الإيمان” الشخصي غير القائم على أدلة، وما يـُقدم بلا دليل يمكن رفضه بلا دليل.

ومن هذا؛ فإن الإلحاد الصرف هو موقف افتراضي، بمعنى أنه ليس ادعاءً، وإنما هو جواب على ادعاء بالرفض. ويعرف الإلحاد من وجهة نظر كثير من الأديان بأنه إنكار لوجود أي إله .

ليست هناك مدرسة فلسفية واحدة تجمع كل الملحدين، فمن الملحدين من ينطوي تحت لواء المدرسة المادية أو الطبيعية، والكثير من الملحدين يميلون باتجاه العلمانية والتشكيك، خصوصا فيما يتصل بعالم ما وراء الطبيعة.

وهناك كلمة بنفس المعنى (اللا ربوبية) كترجمة عربية لكلمة (atheism) في الحملة العلنية لظهور اللاربوبيين (الملحدين)، والتي دعا إليها العالم ريتشارد دوكنز، إلى جانب كلمة (إلحاد)، كمحاولة لإشهار كلمة ثانية لا تحمل معنى سلبيا من حيث اللغة، وتعطي المعنى المطلوب، المتمثل بعدم الاعتقاد بإله أو آلهة، لكن بالرغم من ذلك فكلمة “إلحاد” هي المستخدمة بصورة شائعة حتى من قِبل الملحدين العرب .

يختلف البعض في تاريخ ظهور الإلحاد أو اللاربوبية، فمنهم من يقول الإلحاد موجود من تاريخ ظهور البشرية وظهور الاديان، ويؤكدها البعض بالآية “قال الجاهل في قلبه ليس إله” (مزمور 14 :1). وهناك من يقول إن الإلحاد كان بمعنى عدم اتباع أي من الأديان الإبراهيمية، ولكن الإيمان بوجود “إله أو آلهة”. ولكن الواضح والظاهر أن الإلحاد زاد واستشرى منذ القرن السابع عشر فصاعدًا، ولاسيما في دول أوربا، وبالأكثر في روسيا ودول الكتلة الشرقية، فهناك عوامل زكَّت نيران الإلحاد وساعدت على انتشاره، نذكر منها الآتي:

  1. الصراع البروستانتي الكاثوليكي .

حرب الثلاثين عامًا من 1648 – 1618م بين البروتستانت والكاثوليك، ونجم عنها خسائر بشرية فادحة، فمثلًا قُتل في أيرلندا نحو مائة ألف رجل، وقُتل ثلث رجال ألمانيا، وانتهت هذه الحروب بسلام “وستفاليا ” Westphalia  الذي أقرَّ الحرية الدينية للجميع، لكيما يعيش اللوثريون مع الكالفنيين مع الكاثوليك في سلام، ولكن من نتائج هذا الصراع البروتستانتي الكاثوليكي الطويل المرير القاسي أن كَرِه الناس الدين والعقيدة والكتاب المقدَّس، بل كرهوا الله ذاته .

  • 2. نظرية التطوُّر والبقاء للأصلح :

أمضى داروين السنوات الطويلة في بحث النباتات والحيوانات وعظامها، وانتهى إلى نظرية “الانتخاب الطبيعي” Natural Selection أو ” البقاء للأصلح ” Survival of the fittest فالكائنات التي استطاعت أن تتكيف تلقائيًا مع البيئة هي التي استمرت وعاشت وتكاثرت. أما الكائنات التي فشلت في التوافق مع البيئة فقد ماتت وانقرضت، وعلى مدار ملايين السنين تطوَّرت الأنواع الأدنى، وأن الإنسان هو ثمرة تطوُّر الأنواع الأدنى.

وقد تأثر داروين بالقس الإنجيلي توماس مالثوس، الذي قال إن السكان يتزايدون بمتوالية هندسية (2 – 4 – 8 – 16 – 32.. إلخ) أما الغذاء فإنه يتزايد بمتوالية عددية (2 – 4 – 6 – 8 – 1… إلخ) مما يقود للصراع من أجل البقاء، ولذلك نادى القس مالثوس بقانون الفقراء اللا إنساني، حيث قال “لا يستحق البقاء إلاَّ من هم أقدر على الإنتاج. أما أولئك الذين وهبتهم الطبيعة حظًا أدنى لهم أجدر بالهلاك والاختفاء”.

وأعتبر أن موت الفقراء من الجوع يعتبر قضاءً وتدبيرا إلهيا، وبهذا برَّر القس مالثوس الثراء الفاحش، ولم يتراءف على الفقراء، وعندما قامت الثورة الفرنسية، ونادت بالإخاء والمساواة والحرية، هاجمها مالثوس معتبرًا أن هذه أمور خيالية، ونتيجة أفكار مالثوس أوصت بعض الطبقات الحاكمة في أوربا بإهمال الفقراء، وتركهم فريسة للجوع والمرض؛ حتى يتخلص منهم المجتمع.

بل أجبرت إنجلترا الأطفال في سن الثامنة والتاسعة على العمل لمدة ست ساعات يوميًا في مناجم الفحم في ظروف صحية سيئة مما تسبب في هلاك الآلاف منهم.

وطبق “داروين” فكر “مالثوس” وهو “الصراع من أجل البقاء” على المجتمع الحيواني، وتوصل إلى فكرة الانتقاء الطبيعي، فالطبيعة تختار الأصلح والأقوى للبقاء على حساب الضعفاء، وقال داروين “رغم أن التكاثر يتم بمعدل كبير فإن الصراع من أجل البقاء هو الذي يضمن لجزء فقط من هذا النسل البقاء، بينما يهلك الجزء الآخر، وبذلك ظهرت نظرية النشوء والارتقاء. وأطلق ” هيربرت سبنسر ” صديق داروين على نظرية الانتقاء الطبيعية (البقاء للأصلح)”.

وقَبِل داروين هذا الاصطلاح، واعترض على القائلين بأن الله خلق الطيور الجميلة والأسماك البديعة، وأرجع هذا للانتقاء الجنسي، فالذكور القوية الجميلة من الطيور والحيوانات هي التي تستأثر بالإناث وتنجب جيلًا قويًا، أما الذكور الضعيفة فمصيرها للانقراض.

ورغم أن داروين ألَّف أكثر من عشرة كتب، ولكن كتابه “أصل الأنواع ” The Origin of Species الذي أصدره سنة 1859م قد أثار ضجة كبيرة، وقد طبع منه 1250 نسخة، وفي اليوم الأول لصدور الكتاب نفذت جميع نسخه، رغم أن النسخة كانت تقع في 490 صفحة، وهذا يوضح مدى تجاوب المجتمع حينذاك مع فكر داروين.

وقد أنكر داروين في كتابه هذا ثبات الأنواع، أي إن الله خلق كل نوع منفصلًا عن الآخر كقول سفر التكوين “وقال الله لتنبت الأرض عشبًا وبقلًا يبزر بزرًا وشجرًا ذا ثمر يعمل ثمرًا كجنسه بزره فيه على الأرض. وكان كذلك. فأخرجت الأرض عشبًا وبقلًا يبزر بزرًا كجنسه وشجرًا يعمل ثمرًا بذره فيه كجنسه.. فخلق الله التنانين العظام كأجناسها وكل طائر ذي جناح كجنسه” (تكوين 1: 11، 12، 21).

وقال داروين إن لله لم يخلق النباتات ولا الأسماك ولا الطيور ولا الحيوانات ولا الإنسان، ولا أي كائن حي، بل كل ما فعله هو أنه أبدع جرثومة واحدة، وهذه الجرثومة أخذت تتفرع وتتنوع عبر ملايين السنين، وبذلك نسب داروين خلقة الكائنات الحية للطبيعة قائلًا “الطبيعة تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق” لقد أنكرت نظرية التطور حقيقة أن “الله خالق كل شيء ” .

للاستفادة من الكورسات، تحتاج أولًا للتسجيل في الموقع