الإلحاد: تاريخه.. أسبابُه! ج2

تحدَّثنا في المقالة السابقة، عن سببين من أهم أسباب ظهور الإلحاد، هنا سنستكمل معا سببين آخرين.

3- الظلم والطغيان ضد الملحدين:

لم يخرج الإلحاد من بيئة مسيحية متدينة تدينًا حقيقيًا، إنما نبت من بيئة تدعو نفسها بأنها مسيحية، وهي ليست كذلك، لأنها متغربة عن مبادئ الإنجيل السامية، والبيئة التي أفرزت لنا الإلحاد تتسم من ناحية بتفشي الظلم والطغيان للرؤساء والحكام، وتتسم من ناحية أخرى بضعف الكنيسة وسلبيتها، فالحكام يطغون ويظلمون، ورجال الدين يداهنون ويبرِّرون، والنتيجة الثورة، فإن لم تكن متاحة بالخارج فبداخل النفس، الثورة ليس ضد الحكام الجائرين فقط، بل وضد رجال الدين المداهنين، بل ضد الدين ذاته وضد الله ذاته، وهكذا يسقط الأفراد تباعًا في الإلحاد بهدف التمرد على الظلم والطغيان، بهدف التخلص من الكبت النفسي الذي تعرضوا له، بهدف السعي نحو الحرية المفقودة.

    وأمثلة لبعض حالات الظلم والطغيان ضد الملحدين من إنجلترا وإيطاليا وفرنسا:

    • جيوفري فاليه:

    وهو أحد النبلاء في أورليانز بفرنسا وكان حسن الصورة جدًا، مهووسًا بطهارة جسده ورونقه، حتى إنه كان يلبس كل يوم قميصًا جديدًا ناصع البياض، وقبل إعدامه بعامين صرَّحت عائلته أنه مُختل عقليًا بسبب بعض الخلافات المالية، لكن تماسُك أفكاره في النبذة التي ألفها “ذروة الصفاء.. الوحي عند المسيحيين”، لا يتفق مع هذا الإدعاء، فقط كانت تنتابه بعض النوبات، وعندما سُجن بسبب هذه النبذة حاول الانتحار، وكان “فاليه” في هذه النبذة قد أنكر وجود الله، وهاجم الكاثوليكية والبروتستانتية والإلحاد، وفضَّل المذهب الليبرتاني، الداعي للتحرُّر الديني (هذا المذهب ينكر الوحي الإلهي ولا ينكر وجود الله)، وقد هاجم فاليه الأديان لأنها تبث الهلع والفزع في النفس البشرية، ولم يقتنع بأن السيد المسيح هو النموذج الإنساني الكامل، ورغم أن فاليه كانت معرفته بالكتاب المقدَّس سطحية، فإنه تم تنفيذ حكم الإعدام فيه سنة 1574م، وأُحرق جسده مع تلك النبذة، ولم تنجو سوى نسخة واحدة منها مع السجل الذي حوى التحقيقات معه .

    • أيكنهد:

    وهو طالب إسكتلندي أعدمته إنجلترا في نهاية القرن السابع عشر بسبب إلحاده، والأمر العجيب أن أيكنهد وهو على حبل المشنقة ألقى خطابًا أعلن فيه عداءه الشديد للدين المسيحي، وهذا يوضح لنا كم كان هذا الشخص معبأ بأفكار فاسدة لم يجرؤ من قبل أن يُفصح عنها، لأن القوانين في تلك العصور كانت تبيح إعدام الملحدين، فكان الملحد يحتفظ بأفكاره لنفسه ويحاول أن يذيعها سرًا، وطالما أن مثل هذه الأفكار الإلحادية لم تخرج للنور، لذلك فلن تجد من يناقشها ويحللها ويرد عليها، ولن يجد الملحد من يحبه ويستوعبه ويرفع عن كاهله معاناته وقلقه.

    جيوردانو برونو :

    وهو إيطالي، وفي الخامسة عشر من عمره التحق بأحد الأديرة، وعندما شك في بعض الحقائق الإيمانية، وعُرف عنه ذلك، فرَّ هاربًا من الدير، وتجوَّل في دول أوربا، ثم تلقى دعوة من شاب إيطالي أرستقراطي، يُدعى “مورسينيجو ” ليتولى تدريسه، ثم اكتشف مورسينيجو مدى ضلال أستاذه فشكاه لمحكمة التفتيش في البندقية لأنه يعتبر يسوع المسيح دجالًا وساحرًا لجأ إلى الحيل لخداع الناس، وأنه ينكر عقيدة الثالوث، وأن الروح تنتقل من جسد إلى جسد، وأن السحر أمر جيد لا غبار عليه، ويسخر من المقدَّسات المسيحية، ويعتقد أننا لسنا الوحيدين في هذا الكون اللا نهائي، بل إن هناك عددا لا نهائيا من العوالم الأخرى، والله لا يكف عن خلق المزيد منها، ويعتقد بتناسخ الأرواح، وأن الروح القدس الذي كان يرف على وجه المياه هو روح العالم، وقام “مورسينيجو” بحبس أستاذه “جيوردانو ” في إحدى غرف القصر، إلى أن تم تسليمه للسلطات الكنسية في البندقية سنة 1592م، وجثا “جيوردانو” على ركبتيه، مقدمًا اعترافه واعتذاره قائلًا “إني أطلب بكل اتضاع من الله ومن قداستكم مغفرة الأخطاء التي ارتكبتها.. إنني أتوسل إليكم أن توقعوا أقصى عقوبة عليَّ حتى لا أدنس رداء الكهنوت الذي أرتديته، وإن شاء الله وشاءت قداستكم إظهار الرحمة نحوي والسماح لي بأن أعيش فإني أقطع على نفسي عهدًا بإصلاح حياتي إصلاحًا كبيرًا”.

    وعفت محكمة التفتيش عنه، إلاَّ أنه رجع لأفكاره بعد ثمان سنوات، فأمهلوه ثمانين يومًا، ولكنه ضيَّع الفرصة وأخذ يتلاعب برئيس الكرادلة، فنزعوا عنه رداء الكهنوت وسلموه للسلطة المدنية مع توصية بتجنب سفك دمه، ومنحته السلطات المدنية فرصة نهائية أسبوعين، ولكنه ظل متشبثًا بآرائه وأفكاره، وأخيرًا اُقتيد إلى المحرقة.

    • 4- شهوة الكبرياء :

    فالكبرياء هي جهل بحقيقة الله المتواضع المُحب “قال الجاهل في قلبه ليس إله”، (مزمور 14: 1).

    إن النجاح الخارق الذي حقَّقه العلم والتقنية ملأ البعض بشحنة من الكبرياء، جعلتهم يأنفون من أي ارتباط بكائن أسمى، وحملتهم على الاعتقاد بأن الإنسان هو سيد الكون بقوته الذاتية، وأنه قادر على كل شيء.

    إن هناك نزعة شعبية أُعجبت بالعلم وإنجازاته وبما حققه الإنسان، وأخذت هذه النزعة تُغيّر ما كان يُنسب مباشرة إلى الله على أنه ينسب ويفسر علميًا، وبالتالي الاستغناء عن الله والإيمان به .

    للاستفادة من الكورسات، تحتاج أولًا للتسجيل في الموقع