الخوف من المستقبل
قليلٌ منه ينفع!

نحن مدينون للخوف بحياتنا… ربما تصدمك أو تفاجئك هذه العبارة. لكنها تحمل شيئًا من الحقيقة. ولكي نكتشف هذا نتعرف أولًا على معنى الخوف ومصدر الشعور به. ينتج الخوف عن شعورنا بالخطر أو التهديد مما ينتج بعض الأعراض في الجسم كالتجمد أو الهروب… والهدف من هذا السلوك حماية النفس من أي أخطار قائمة أو محتملة. ليس هذا فحسب، فالخوف أيضًا ربما يساعدك على الإنجاز؛ فقبل خوض امتحان أو التعرض لموقف صعب، يشعر الإنسان ببعض الخوف الذي يحفزه ليصنع أفضل ما لديه.
ومن أحد أهم أسباب الخوف لدى الإنسان هو المستقبل؛ فالإنسان عادةً يخاف من المجهول، خاصة لو كانت الظروف الحاضرة تنبئ بخسائر أو مخاطر. فعندما تعرض العالم كله لتداعيات جائحة كورونا، عام 2020، فقد الكثيرون وظائفهم، وأصحابهم وأحباءهم، وأصيب كثيرون أيضًا، كان الخوف من الغد هو عنوان هذه المرحلة. ومع اشتعال أزمات الحرب الروسية الأوكرانية في مارس 2022، وما تلاه من أزمات اقتصادية دولية، ومخاوف من حدوث أزمة في الغذاء، شعر كثيرون أيضًا بالخوف من المستقبل.
نوعان من الخوف
عند هذه النقطة، دعني أفرِّق بين نوعين من الخوف؛ النوع الأول هو نوع طبيعي وصحي أيضًا، أو يُسمَّى الخوف المنطقي، فمن الطبيعي أن أشعر بالخطر إذا رأيت العديد من الأشخاص من حولي يفقدون وظائفهم، أو يُصابون بعدوى، ويكون هذا الخوف مفيدًا عندما أفكر فيه بشكل منطقي لأحلل النتائج، وأتوقع الخسائر المحتملة، وأدرس كيفية تجاوزها… أما عن النوع الثاني، فهو نوع قهري من الخوف، يشل تفكير الإنسان ويعمي عينيه عن رؤية الفرص المتاحة أو الحلول الممكنة، وربما يصيب الشخص بنوبات من الهلع والقلق، ويمتد تأثيره السلبي ليؤذي الصحة العامة للجسد. الفارق الأساسي بين نوعي الخوف هو أن الخوف الطبيعي ينتهي بانتهاء أسبابه، بينما الخوف المرضي والقهري لا ينتهي حتى لو زالت أسبابه.
كيف يرى الكتاب المقدس الخوف من المستقبل؟
عادةً عندما يصنع الإنسانُ شيئًا ما -سيارة مثلًا أو جهازًا كهربائيًّا- يكون مدركًا لكافة تفاصيله، وكيفية الحفاظ عليه وما إلى ذلك، وهكذا الله، الذي خلقنا، نحن خليقة الله، أي هو صنع كل شيء بداخلنا، المشاعر والهرمونات وأعضاء الجسم كلها، لذا فهو يعرف ما يشعر به الإنسان، ويعرف جيدًا أن الإنسان لديه مخاوف، فالله هو العالم بكل شيء.
لهذا السبب، تعامل الكتاب المقدس مع مشاعر الخوف في كافة المواقف ومختلف الأسفار؛ وهو يتعامل بمنطق يحترم عقل الإنسان، ومشاعره. فكثيرًا ما وردت عبارة “لا تخف…”، أو “لا تخافوا…”، بمختلف صيغها في الكتاب المقدس. لكن الملاحظ أن في أغلب المرات التي قال فيها الله لإنسان ما لا تخف، كان يلحقها بسبب منطقي يطمئن الإنسان، مثل لأني معك، لأني حفظتك… وما إلى ذلك؛ لننظر مثلًا لما قاله السيد المسيح بشأن الخوف من المستقبل في إنجيل متى الإصحاح السادس، الآيات من 25 وحتى 28: “«لِذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ، وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ؟ اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟ وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعًا وَاحِدَةً؟ وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِاللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ.
لا يدعو السيد المسيح هنا إلى التواكل أو عدم بذل المجهود، بل على العكس، هو يبعث الشعور بالاطمئنان والسلام الذي يمكِّن الإنسان من الإنتاج والإبداع. لهذا، يمكن تلخيص الرسالة الأساسية للكتاب المقدس في موضوع الخوف فيما يلي: “اعمل ما عليك، ودع الله يكون الله، وبهذا لا تخف من المستقبل”.