العمل.. دورُ اللهِ ومسؤوليَّةُ الإنسانِ

“العيِّل بييجي برزقه”، “قول يا باسط”، “العبد في التفكير والرب في التدبير”… وغيرها من العبارات التي تنتشر بشدة في مجتمعاتنا، وتسببت على مدار عشرات السنوات في العديد من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، بدايةً من الانفجار السكاني، وصولًا إلى تدنِّي مستوى الدخل للفرد، وزيادة معدلات الفقر، وتصاعد نِسَب البطالة، وغياب الكفاءات العملية الحقيقيَّة، ثم إلى انتشار العنف والجريمة، والتديُّن الزائف، والتواكُل، وغيرها من السلوكيات المدمِّرة للمجتمع.

بالطبع ليس المقصود أن الله سبحانه لا يتدخل أو لا يدبر أو لا يرزق، فهو قادر وقدير. لكن المقصود هو الاستخدام الخاطئ لهذه العبارات التي تبدو أنها تدل على الإيمان بالله وقدرته، لكن استخدامها بطريقة خاطئة من قِبَل البعض جعلها مبررًا للكسل وعدم تحمُّل المسؤولية، وعدم الرغبة في إتقان العمل ليكون على أحسن وجه. 

لماذا نحن هنا؟  

هذه الأفكار تدعونا للتساؤل حول سبب خلق الإنسان، ودوره، ومسؤوليته تجاه المجتمع. يقدم سفر التكوين، أول أسفار الكتاب المقدس، قصة خلق الإنسان بطريقة مشابهة تقريبًا لقصص الخلق التي ترد في مُختَلَف الديانات، لكن يتوقف عند جملة مهمة، في رأيي أنها تؤكد على مسؤولية الإنسان ودوره تجاه الخليقة، يقول: “وَأَخَذَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا” (سفر التكوين 2: 15). هذه الكلمات تشير بقوة إلى أن عمل الإنسان هو جزءٌ رئيسٌ من فكر الله تجاه الخليقة كلها، وأنه خلق كلَّ كائنٍ في الطبيعة لدورٍ ووظيفةٍ، بدليل أن التوازن البيئيَّ قد يختل بسبب غياب أحد الكائنات. فما بالك بالإنسان، الذي أوكله الله على هذه الخليقة!

لهذا أدعوك عزيزي القارئ لتخيُّل مجتمعٍ لا يقوم فيه أحد بوظيفته؛ فالعامل في المصنع لا يذهب لعمله أو لا يتقنه على اعتبار أن الله سيهتم بالأمر، والمُزارع يترك أرضه دون اهتمام أو رعاية أو مجهود في الزراعة، والمدرِّس والطبيب والمهندس… إلى آخر القائمة. كيف سيكون حال هذا المجتمع؟ إن عدم اهتمام الفرد بعمله لا يؤثر فقط عليه لكن على جميع المحيطين به، ومعنى هذا أنَّ كلًّا منا له دور وعليه مسؤولية يجب أن يراعيها ويقوم بها على أكمل وجه.

ولقد أكد الكتاب المقدس على أهمية العمل فيقول سفرُ الأمثال، الذي كتبه النبيُّ سليمان: “مَنْ يَشْتَغِلُ بِحَقْلِهِ يَشْبَعُ خُبْزًا، أَمَّا تَابعُ الْبَطَّالِينَ فَهُوَ عَدِيمُ الْفَهْمِ” (أمثال 12: 11).

“من لا يعمل لا يأكل”

بولس الرسول، كان واحدًا من أهم مَن كرزوا بالسيد المسيح ونشروا تعاليمه في العالم القديم، وكتب 13 سفرًا، بوحي من الله، ضمن أسفار الكتاب المقدس. ورغم هذا لم يترك بولس الرسول عملَه؛ إذ كان يعمل صانعَ خيامٍ، لدرجة أنه استطاع أن يقول إنه لم يأكل من أحد خبزًا مجانًا، بل عمل بكد ليل نهار ليوفر احتياجه.

والموقف الأهم الذي يعكس رؤية المسيحية لضرورة العمل والمسؤولية، يأتي في رسالة كتبها بولس الرسول إلى مدينة تُدعى تسالونيكي. اعتقد بعضٌ من أهل هذه المدينة، بعدما آمنوا بالسيد المسيح، أنهم مدعوون فقط للصلاة والعبادة، فتركوا أشغالهم. فما كان من بولس الرسول إلا أن أرسل إليهم لينهاهم عن هذا السلوك المرفوض، قائلًا: “إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلاَ يَأْكُلْ أَيْضًا” (رسالة بولس الرسول الثانية إلى تسالونيكي 3: 10).

يريد اللهُ منَّا أن نتحمَّل مسؤولياتنا تجاه أنفسنا ومجتمعاتنا، يريدنا أن نقومَ بأعمالنا على أكمل وجه وعلى أحسن ما يكون. وقد خلق فينا عقلًا استطاع أن يحقِّق معجزاتٍ ويصعد للفضاء ويطير في الجو، ويخترع اختراعات غيرت شكل الحياة تمامًا، فمنحنا القدرة والقوة والفهم للقيام بأعمالنا، منتظرًا منا أن نتمَّها على أكمل وجه.

للاستفادة من الكورسات، تحتاج أولًا للتسجيل في الموقع