الغفران.. ضعفٌ أم قوة؟!

الغفران هو أن يُسامح المرء شخصا أساء إليه. والكلمة اليونانية المُترجَمة إلى «غفران» في الكتاب المقدس، تعني حرفيا «التخلي عن»، مثلما يتخلى الشخص عن حقه في المطالبة بدَيْنٍ ما. وقد استخدم يسوع هذا التشبيه حين علَّم اتباعه أن يصلُّوا: “وَاغْفِرْ لَنَا خَطَايَانَا لأَنَّنَا نَحْنُ أَيْضًا نَغْفِرُ لِكُلِّ مَنْ يُذْنِبُ إِلَيْنَا، وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ لكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ”. (لوقا ١١:٤) كذلك في مثَله عن العبد العديم الرحمة، شبَّه يسوع الغفران بترك الدَّيْن. متى ١٨:٢٣-٣٥.
ونحن نسامح الآخرين، حين لا نُضمر لهم الاستياء، ولا نطالب بأي تعويض عما عانيناه منهم مِن ألمٍ أو خَسارة. والكتاب المقدس يُعلِّم أن المحبة غير الأنانية، هي أساس الغفران الصادق، لأن المحبة “الْمَحَبَّةُ تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ. الْمَحَبَّةُ لاَ تَحْسِدُ. الْمَحَبَّةُ لاَ تَتَفَاخَرُ، وَلاَ تَنْتَفِخُ، وَلاَ تُقَبِّحُ، وَلاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا، وَلاَ تَحْتَدُّ، وَلاَ تَظُنُّ السُّوءَ”. (كورنثوس الأولى ١٣:٤، ٥). والكتاب المقدس، يقول الكثير بشأن الغفران وعدم الغفران.
ربما يكون من أشهر التعاليم حول عدم الغفران، هو المثال الذي قدَّمه يسوع عن العبد غير الرحيم، والمُسجَّل في متى 18: 21-35. في هذا المثل، غَفَر مَلِك دينا كبيرا جدا (دينا لا يمكن أن يتم ردُّه) لأحد عبيده. بعد ذلك، رفض نفس العبد أن يغفر دينا صغيرا لشخص آخر. فَسَمِع الملك بذلك؛ ففام بإلغاء غفرانه السابق. وخَتَم المسيح المثل بقوله: “فَهكَذَا أَبِي السَّمَاوِيُّ يَفْعَلُ بِكُمْ إِنْ لَمْ تَتْرُكُوا مِنْ قُلُوبِكُمْ كُلُّ وَاحِدٍ لأَخِيهِ زَلاَتِهِ».” (متى 18: 35). وتخبرنا مقاطع أخرى أنه يغفر لنا كما نغفر نحن للآخرين (انظر مثلا متى 6: 14؛ 7: 2؛ ولوقا 6: 37).
ولا يجب أن نتخبَّط هنا؛ إن غفران الله لا يعتمد على أعمالنا. فالغفران والخلاص مؤسسان بالكامل في شخص الله، وعمل المسيح الفدائي على الصليب. ولكن أفعالنا تُظهر إيماننا، وتبين مدى فهمنا لنعمة الله (انظر يعقوب 2: 14-26 ولوقا 7: 47). إننا غير مستحقين تماما، ولكن الرب يسوع، اختار أن يدفع ثمن خطايانا، ويمنحنا الغفران (رومية 5: 8). عندما ندرك بالفعل عظمة عطية الله، لنا سوف نقدمها للآخرين. لقد منحنا الله نعمة، وعلينا بالمقابل أن نمنح النعمة للآخرين. إننا في المثل السابق، نستاء من العبد الذي لم يغفر دينا صغيرا، بعد أن غُفِر له دينه الذي لا يُغفَر. لكننا عندما لا نغفر للآخرين، نتصرف مثل العبد في ذلك المثل تماما.
الغفران لا يعني أن . . .
- تتجاهل الاساءة. يدين الكتاب المقدس مَن يدَّعون أن الأعمال الشريرة هي مقبولة أو غير مؤذية. (إشعياء ٥:٢٠).
- تتظاهر بأن الاساءة لم تحصل. سَامَح اللّٰه الملك داود على خطيَّتين خطيرتين، لكنَّه لم يحمِه من عواقب أعماله. حتى إنه حَرِص أن تُدوَّن هاتان الخطيَّتان، وتُحفظا إلى يومنا هذا. — ٢ صموئيل ١٢:٩-١٣.
- تسمح للآخرين باستغلالك. تخيَّل مثلا أنك اقرضت شخصا مبلغا من المال. لكنه بذَّره، وعجز عن تسديده كما وعد. فيشعر بأسفٍ شديد، ويعتذر منك. عندئذ قد تقرِّر أن تسامحه، فلا تضمر الاستياء، ولا تفاتحه في الموضوع، مرةً بعد اخرى، حتى إنك قد تلغي الدَّيْن بكامله. لكنك، قد تُقرر في الوقت نفسه، ألا تقرضه المال في ما بعد. مزمور ٣٧:٢١؛ أمثال ١٤:١٥؛ ٢٢:٣؛ غلاطية ٦:٧.
- تُسامِح مهما كان موقف الشخص المسيء. لا يسامح اللّٰه مَن يرتكب عمدا خطية خبيثة، ويرفض الاعتراف بأخطائه، وتغيير مسلكه، وتقديم الاعتذار. (أمثال ٢٨:١٣؛ أعمال الرسل ٢٦:٢٠؛ عبرانيين ١٠:٢٦)؛ فاللّٰه يعتبر مَن لا يتوبون عن خطاياهم، أعداءً له، وهو لا يطلب منا أن نسامح مَن لم يسامحهم هو. مزمور ١٣٩:٢١، ٢٢.
لكن ما العمل، أذا وقعت ضحية معاملة ظالمة، رفض مُسبِّبها أن يعتذر أو حتى يُقرَّ بما فعله؟ ينصح الكتاب المقدس: “كُفَّ عَنِ الْغَضَبِ، وَاتْرُكِ السَّخَطَ، وَلاَ تَغَرْ لِفِعْلِ الشَّرِّ،” (مزمور ٣٧:٨)؛ فعدم السماح للغضب بأن يسيطر عليك، لا يعني أن تتجاهل الخطأ. ثق أن اللّٰه سيحاسب هذا الشخص. (عبرانيين ١٠:٣٠، ٣١)، وقد يريحك أن تعرف بأن اللّٰه يعدنا بعالم جديد، يخلو من الآلام والأحزان التي تضايقنا اليوم. إشعيا ٦٥:١٧؛ رؤيا ٢١:٤.
تغفر كل «إهانة». في بعض الحالات، علينا أن نعترف بأن استياءنا هو أساسا غير مبرَّر. يذكر الكتاب المقدس:
“لاَ تُسْرِعْ بِرُوحِكَ إِلَى الْغَضَبِ، لأَنَّ الْغَضَبَ يَسْتَقِرُّ فِي حِضْنِ الْجُهَّالِ.” (جامعة ٧:٩).
كيف تغفر للآخرين؟
- تذكَّر ما يعنيه الغفران. أنت لا تتجاهل الخطأ، أو تتصرَّف، وكأن شيئا لم يكن، بل أنت ببساطة تغض النظر عنه.
- اعرف فوائد الغفران. عندما تسيطر على غضبك، ولا تُضمِر الاستياء، تحافظ على هدوئك، وتحسِّن صحتك، وتزيد سعادتك. (أمثال ١٤:٣٠؛ متى ٥:٩)، ولكي يغفر اللّٰه لك، عليك أن تغفر أنت للآخرين.
- كن متعاطفا. نحن جميعا نخطئ. (يعقوب ٣:٢) ومثلما نُقدِّر غفران الآخرين لنا، يجب أن نغفر لمَن يخطئ الينا. (متى ٧:١٢).
- كن متعقلا. حين يكون الخطأ طفيفا، يمكننا أن نُطبِّق مشورة الكتاب المقدس: “مُسَامِحِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا إِنْ كَانَ لأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ شَكْوَى. كَمَا غَفَرَ لَكُمُ الْمَسِيحُ هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا” كولوسي ٣:١٣.
- تصرَّف بسرعة. اسعَ أن تسامح في أسرع وقت ممكن عوض أن تدع غضبك يزداد. (أفسس ٤:٢٦، ٢٧).
آيات عن الغفران
أَمْثَال ١٧:٩ “مَنْ يَسْتُرْ مَعْصِيَةً يَطْلُبِ الْمَحَبَّةَ، وَمَنْ يُكَرِّرْ أَمْرًا يُفَرِّقْ بَيْنَ الأَصْدِقَاءِ.”
مَتَّى ٦:١٤ “فَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَلاَتِهِمْ، يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضًا أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ.”
لُوقَا ٦:٣٧ “«وَلاَ تَدِينُوا فَلاَ تُدَانُوا. لاَ تَقْضُوا عَلَى أَحَدٍ فَلاَ يُقْضَى عَلَيْكُمْ. اِغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ.”
مَتَّى ١٨:٢١-٢٢ “حِينَئِذٍ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ بُطْرُسُ وَقَالَ: «يَا رَبُّ، كَمْ مَرَّةً يُخْطِئُ إِلَيَّ أَخِي وَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ؟ هَلْ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ؟» قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لاَ أَقُولُ لَكَ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ، بَلْ إِلَى سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّاتٍ.”
أَمْثَالٌ ٢٨:١٣ “مَنْ يَكْتُمُ خَطَايَاهُ لاَ يَنْجَحُ، وَمَنْ يُقِرُّ بِهَا وَيَتْرُكُهَا يُرْحَمُ.”
اَلْمَزَامِيرُ ٨٦:٥ لأَنَّكَ أَنْتَ يَا رَبُّ صَالِحٌ وَغَفُورٌ، وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ لِكُلِّ الدَّاعِينَ إِلَيْكَ.