الميلاد الجديد.. وعلامات المولودين ثانيةً
(ليس أسوأ من أن يتظاهر المرء بشيءٍ لا يمتلكه!)
استقبل المهاتما غاندي، ذات يومٍ، عددًا من القسوس المسيحيين، وكانت الساعة تشير إلى السادسة والنصف صباحًا. كان رجل الهند هذا، الذي قاد بلاده في طريق الإستقلال الكامل، قد انتهى لتوه من تناول فطوره، فجلس مع القسوس في غرفةٍ عُلوية. وكان يلبس رداء نصفيًا يلف به حقويه، ويحمل ساعة رخيصة الثمن في جيبه، في تلك الجلسة الهادئة؛ سأل القسوس مضيفهم، رأيه في اختبار الولادة الجديدة، الذي تكلم عنه يسوع، في الإنجيل؛ فقال غاندي: “إني أومن باختبار الولادة الجديدة الذي تكلم عنه يسوع في الإنجيل، إني أومن باختبار الولادة الجديدة الذي يتكلم عنه المسيحيون. وأقول من جهةٍ أخرى، لا يوجد ما هو أسوأ من أن يتظاهر المرء بشيء لا يمتلكه”. ثم أضاف: “إذا اهتدى إنسان إلى الله من خلال تعرفه بالمسيح يسوع، عليه أن يعتمد، ويُعلن للعالم بأسره أنه من اتباع المسيح، وإلا فإنه لا يتعدى كونه كذبة حية”.
يشير تعبير “الولادة الجديدة”، إلى بداية الحياة الروحية مع المسيح. وهذا التعبير من أجمل التعابير التي تصف حقيقة الاختبار المسيحي، والعلاقة الجديدة مع الله. لقد صرح المسيح قائلا: “الْحَق الْحَق أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللهِ” (يوحنا 3: 3). لذا؛ من المهم أن ندرس ما يعني هذا التعبير في الكتاب المقدس.
إذ قد وصف ما حدث له، في مقطع من سيرته التي أسماها: “اعترافات أوغسطينوس”؛ حيث قال: “طرحت نفسي تحت شجرة تين واستسلمت للبكاء، وكانت دموعي تسيل كالجداول. صرخت قائلاً: إلى متى؟ غدًا، لماذا غدًا؟ اليوم اليوم. لماذا لا أضع حدًا لنجاستي وشري اليوم. كنت أقول هذه الكلمات وأبكي بمرارة وانسحاق، وفجأة سمعت صوت فتى أو فتاة لا أدري، منبعثًا من منزل مجاور، ينشد مكررًا: خذ وأقرأ، خذ وأقرأ، خذ وأقرأ. توقفت على الفور عن البكاء”.
“وأخذت أتساءل هل سمعت قبلاً نشيدًا كهذا؟ فلم أستطع أن أتذكر. نهضت واقفًا يملأني شعور بأن الصوت صوت إلهي، يأمرني أن أفتح الكتاب المقدس، وأقرأ في أول صفحة تقع عيني عليها. أسرعت إلى المقعد حيث كان يجلس صديقي أليبيوس، لأنني هناك تركت كتاب رسائل بولس الرسول، قبل أن أختلي بنفسي. أخذت الكتاب المقدس، وفتحته، وقرأت الفقرة التي وقع نظري عليها. جاء فيها: “لنسلك بلياقة كما في النهار، لا بالبطر والسكر، لا بالمضاجع والعهر، لا بالخصومات والحسد. بل ألبسوا الرب يسوع المسيح، ولا تصنعوا تدبيرا للجسد لأجل الشهوات”. (رومية 13:13).
نجد المقطع الكتابي المعروف، والذي يجيب عن هذا السؤال، في (يوحنا 1:3-21)؛ حيث يتحدث الرب يسوع مع نيقوديموس، وهو فريسى، وعضو فى السنهدريم (المجمع المقدس الذي يحكم اليهود)، وقد جاء نيقوديموس إلى المسيح أثناء الليل، وكانت لديه أسئلة كثيرة.
عندما تكلم يسوع مع نيقوديموس، قال له: “الْحَق الْحَق أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ الله. قَالَ لَهُ نِيقُودِيمُوسُ: كَيْفَ يُمْكِنُ الإِنْسَانَ أَنْ يُولَدَ وَهُوَ شَيْخٌ؟ أَلَعَلهُ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ بَطْنَ أُمهِ ثَانِيَةً وَيُولَدَ؟ أَجَابَ يَسُوعُ: الْحَق الْحَق أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالروحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ. اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ وَالْمَوْلُودُ مِنَ الروحِ هُوَ رُوحٌ. لاَ تَتَعَجبْ أَني قُلْتُ لَكَ: يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ” (يوحنا 3: 3-7).
إن المعنى الحرفي لعبارة “الميلاد الثاني” هو “مولود من فوق”. كان لدى نيقوديموس احتياجٌ حقيقى. كان بحاجةٍ إلى تغييرٍ فى قلبه، وتجديد روحى شامل. والولادة الجديدة، أي الميلاد الثاني، هي عمل الله، الذي يمنح من خلاله الحياة الابدية لمن يؤمن به “إِذًا إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ: الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ، هُوَذَا الْكُل قَدْ صَارَ جَدِيدًا”. (كورنثوس الثانية 17:5).
ويؤكد إنجيل يوحنا أن “الميلاد الثاني”، يحمل أيضا معنى “أن نصبح أولاد الله”، من خلال الثقة فى نسم يسوع المسيح. “وَأَما كُل الذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ. اَلذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُل، بَلْ مِنَ اللهِ”. (يوحنا 1: 12، 13).
يقول الرسول بولس فى (رسالة أفسس 1:2)، “وَأَنْتُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً بِالذنُوبِ وَالْخَطَايَا”. وكتب في (رسالة رومية 23:3)، يقول: “الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ الله”. فالخطاة “أموات” روحيا؛ ويُشبه الكتاب المقدس نوالهم الحياة الروحية، من خلال الإيمان بالمسيح، بـ”الولادة الثانية”. إن الذين ولدوا ثانية، وغفرت خطاياهم، هم فقط من يتمتعون بعلاقة مع الله. إذن الاحتياج للميلاد الجديد؛ يكون ليُولد الإنسان روحيا من جديد، مُطهرا من خطاياه، ليتمتع بعلاقة حية بنوية مع الرب يسوع.
تقول رسالة (أفسس 8:2-9)، “لأَنكُمْ بِالنعْمَةِ مُخَلصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيةُ اللهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ”. عندما يخلص الشخص؛ فإنه يكون قد ولد ثانية، وتجدد روحيا، وأصبح ابنا لله من خلال الولادة الثانية.
أ. الولادة الجديدة ليست المعمودية.
يُعلم كثيرون اليوم، عن أن المعمودية هي “الولادة الجديدة”. فرغم أن للمعمودية أهميتها في المسيحية، لكنها تختلف عن الولادة الجديدة. فالولادة الجديدة بالروح القدس، هي اختبار فريد ومنفصل عن المعمودية، التي يجب أن يسبقها اختبار التجديد. (أعمال الرسل 10: 47)، “أَتُرَى يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَمْنَعَ الْمَاءَ حَتَّى لاَ يَعْتَمِدَ هؤُلاَءِ الَّذِينَ قَبِلُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ كَمَا نَحْنُ أَيْضًا؟”.
ب. الولادة الجديدة ليست عملية إصلاح.
تتعرض حياة الانسان باستمرار الى تقلبات. فمن الممكن أن يتغير الإنسان نحو الافضل، من خلال تركه لعادة، أو عادات سيئة. هذا جيد جدا، ولكنه ليس “الولادة الجديدة” التي تحدث عنها الرب يسوع في تعاليمه. لقد كان نيقوديموس رجل دين، في موقع المسؤولية، لكن هذا لم ينفعه في علاقته الروحية مع الرب، بل كان بحاجة إلى اختبار الولادة الجديدة. الذي هو تغيير عميق في الطبيعة الداخلية.
ولقد حفظ الشاب الغني الوصايا، ومارسها (حسب ما كان يظن)، لكن هذا لم ينفعه روحيا في علاقته مع الرب، اقرأ (مرقس 10: 17-22).
لقد تمتع شاول الطرسوسي (لاحقا بولس)، بكل المواصفات التي تؤهله أن يكون مقبولا عند الله، لكن هذا لم يكن كافيا. اقرأ (فيلبي 3: 4-8).
ج. الولادة الجديدة ليست كأي اختبار روحي.
إن كثيرين اليومَ يمزجون بين اختباراتهم الروحية، واختبار الولادة الجديدة، معتبرين أن أي اختبار روحي، أو يقظة روحية، هي بداية جديدة مع الله، وبالتالي هي الولادة الجديدة.
1. لقد حصل اختبار مع سيمون الساحر، ولكنه لم يكن كاف للخلاص. اقرأ (أعمال الرسل 8: 9، 13، 18-22).
2. لقد حذر يسوع سامعيه من الاختبارات السطحية التي تعتمد على المشاعر الوقتية. اقرأ (متى 13: 3، 5، 18، 20، 21).
ملاحظة: إن عملية الولادة الجديدة تستدعي المشاعر الإنسانية. لكن يجب أن ننتبه إلى أن المشاعر، تأتي كنتيجة الولادة الجديدة، وليست كمسبب لها.
“كأطفالٍ، مولودين الآن اشتهوا اللبن العقلي العديم الغش لكي تنموا به”، (رسالة بطرس الأولى 2: 2). إن كل من وُلد من الله، يحب كلمة الله، ويتغذى ويحيا، وينمو بها روحيًا. مثل الطفل الذي يرضع اللبن الحرفي، بالغريزة الطبيعية. لاحظ أن الشخص غير المولود من الله، يشعر بالسآم، والملل، وليس لديه الرغبة في أن يسمع أو يقرأ كلمة الله. أما المولود من الله فيشعر بلذّة وأشواق نحو هذه الكلمة.
إن المولود من الله، يجد راحته في التحدث إلى الله كأبيه. والصلاة هي التعبير عن الاحتياج، والشعور بالضعف الإنساني، الذي يستند على قوة الله القدير، ويتعلق بها بالمحبة. مثل طفل يرتمي في حضن أبيه، ويثق كل الثقة في محبته وقوته وحكمته. والمولود من الله صارت لديه رغبات واهتمامات روحية يعبِّر عنها في صلاته بعد أن كان قبلاً يدور في فلك أعوازه الزمنية فقط.
من خصائص الطبيعة الجديدة، أنها تجعل المؤمن، يُطيع وصايا الرب، ويَخضع لسلطانه. وهذا عكس الإنسان الطبيعي العاصي والمتمرد. إن بداية عمل الله في النفس، هو أن يخلق فيه روح الطاعة، وأن يكسر فيه الإرادة الذاتية العنيدة. هذا ما حدث مع شاول الطرسوسي في أول مقابلة مع الرب، عندما أبرق حوله نور أفضل من لمعان الشمس وسمع صوتًا من السماء يقول «شاول شاول لماذا تضطهدني؟». فسقط على وجهه إلى الأرض وقال «يا رب ماذا تريد أن أفعل؟» (أعمال الرسل 9: 6). لقد أظهر كل طاعة وخضوع؛ ليتخلى عن إرادته الذاتية؛ ويفعل إرادة الله.
“كل من يصنع البر مولود منه”، (رسالة يوحنا الأولى 2: 29). إن ما يميز المولود من الله، السلوك في الأعمال الصالحة المرضية أمام الله، كالعيشة في القداسة، والانفصال عن الشر، ضبط النفس، وضبط العواطف والرغبات، رفض الخطية، والهروب من الشهوات. إنها تجعل المؤمن، يحب البر، ويحب أن يعيش طاهرًا. كما أنه لا يستريح وسط جو فاسد ملوث بالشرور، ويحزن إذا سقط في الخطية.
“كل من يحب فقد وُلد من الله ويعرف الله… لأن الله محبة”، (رسالة يوحنا الأولى 4: 7). فهذه أيضًا علامة تميز المولود من الله. فالمحبة هي طبيعة الله التي نلناها بالولادة من الله. إنها عاطفة مقدسة، تتميز بالبذل والعطاء والتضحية، والاستعداد للخدمة، والتعب لأجل الآخرين. إنها عكس الأنانية، ومحبة الذات التي تميز الإنسان الطبيعي، غير المولود من الله. وهي محبة راقية، لا ترجو من المحبوب شيئًا، وإنما ترجو له كل شيء. انظر (كورنثوس الأولى 13 – أصحاح المحبة).
من سنة إلي سنة، هناك نمو في الحياة الروحية، وهذا دليل قاطع على وجود الحياة. إنه نمو تدريجي بطيء، لكن بثبات. قد لا يظهر في بعض الفترات، لكن وجوده في أوقات أخرى بوضوح، دليل على الحياة. فالمولود من الله ينمو في معرفة الرب، ومعرفة الكتب المقدسة، ينمو في الشركة مع الرب، وفي محبته له، ومع النمو، تقل الأخطاء وتختفي بعض العيوب والصغائر من حياته.
كل من وُلد من الله، يعاني من صراع داخلي، ينشأ بسبب الطبيعة التي تميل لفعل الخطية، والثانية (الجديدة) التي نالها بالولادة من الله، وتميل لفعل البر. فهناك أشواق مقدسة، ورغبات روحية، هي رغبات الطبيعة الجديدة، تقابلها وتعاكسها ميول قوية نحو الخطية، وبغض النظر عن نتيجة الصراع، فإن وجود الصراع نفسه دليل على وجود الحياة.
إن الممارسات الدينية، والأنشطة الروحية، لا تعني بالضرورة الولادة من الله. فليس الشرير جدًا هو فقط مَن يحتاج إلى ذلك، بل حتى المتدين، والمؤمن إيمانًا عقليًا، يحتاج أن يولد ولادة ثانية، لكي يصبح من أولاد الله، ولكي يصل إلى السماء. وربما يسأل سائل: كيف أتأكد أني وُلِدْتُ من الله، خاصة إذا لم يكن هناك اختبار، أو تاريخ محدد، أتذكر أن عنده بدأ التغير في حياتي فجأة؛ حيث إنني نشأت في أسرة مسيحية، ولا توجد نقلة كبيرة في حياتي؟
والجواب هو: ليس المهم متى، أو كيف حدث ذلك لأول مرة. فقد لا يعرف الإنسان تاريخ ميلاده، ولا أين تم ذلك. لكنه بالتأكيد يستطيع أن يقرر الحقيقة الثابتة الآن؛ وهي أنه كيان حي، وله وجود حقيقي، لا يُشَك فيه. والشيء ذاته، في مسألة الولادة من الله. ليس ما حدث في الماضي، بل ما أنت عليه الآن، هو ما يقرر الحقيقة.