قيمة الإنسان في قلب الله الحنَّان!
ذات يوم كان ماشيًا عابسًا تتقاذفه أفكاره يمينًا ويسارًا، كان الماشي في مستهل سن المراهقة وسأل نفسه يائسًا .. لو فارقت الحياة هل سيذكرني أحد، يوجد هنا أو هناك مَن يهتم؟! جاء من داخله رد مؤلم أكثر من السؤال ذاته، هل ألم غيابي للحياة وعنهم سيطول بعد أداء مراسم العزاء ليوم أم ليومان ربما لنهاية الأسبوع!! وكان يقصد والديه.
صديقي الكريم .. كان الماشي يبحث عن مكانته وغلاوته في العيون والقلوب. قد لا تلمع عيون أحدهم عندما يلقاك، قد تكون حياتك خالية مِمَن يقدرونها، ها العمر قد وصل بك إلى هنا ولم تسمع كلمة تقدير وشعور بالاهتمام، قد يكون رحل عنك أو رحلت أنت عنما كنت تنتظرهم وتنتظرهم وحدهم ليعلنوا لك غلاوتك وقيمتك عندهم. وربما تكون في انتظار طويل لتقدير وكلمة محبة من شريك حياتك وهو لا يبالي!!
عزيزي .. سبقتنا جميعًا في هذا الطابور الممتد عبر السنين “ليئة” التي عاشت طيلة عمرها في انتظار نظرة تقدير وابتسامة حب ولمسة حانية من زوج أحب غيرها وتزوج أختها، رغم أنهما كانا يعيشان في بيت واحد لكن عاش يعقوب بعيدًا عنها جدًا! كشف الكتاب قلب يعقوب ونوعية العلاقة غير السوية بينه وبين وزوجته ليئة إذ يقول الوحي المقدس: « .. وَأَحَبَّ أَيْضًا (أي يعقوب) رَاحِيلَ أَكْثَرَ مِنْ لَيْئَةَ..» التكوين ٣٠:٢٩ عاشت الزوجة بشعور قاس ومؤلم بعدم القيمة نتيجة الرفض من أقرب الناس إليها أبيها الذي زج بها عنوة في قفص الزوجية لزوج لا يبالي ولا يريد الارتباط بها، كما وضعفها الجسدي -لقد كانت ضعيفة العينين- زاد من الطين بلة؛ كان عائق أخر يعوق أي فتاة عن الشعور بالقيمة، وما أكد على هذا الشعور جمال الشكل الخارجي لأختها راحيل والذي كان وبكل تأكيد محط مقارنة الذي كان لا يعرف إلا الإتجار بالبشر، عزيزي لا أعرف ما أو مَن الذي يمهد لتفكيرك أن تشعر بعدم قيمتك، لكن عليك إذا كان هذا الشعور القاسي يتملكك أن تفضحه داخلك باعترافك به لذاتك!!
يا صديقي .. خلقنا للتقدير، أُبدعنا للإكرام، مُصمَمُون لنكون ذا شأن، تركيبتنا الأساسية مكوناتها مُركبة من عناصر سرمدية إلهية، يقول الوحي المقدس: «وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً.» “التكوين ٧:٢”، جبلنا الله من تراب؛ وقام بدور الفنان التشكيلي وهو يشكل وينحت ويضغط ويزيل الزائد ويحمل بين يديه تلك الطينة فعل مالم يفعله مع باقي خليقته، ومِن كيانه السرمدي نفخ في أنف الطينة نسمة حياة لاشت التراب الزائد أعلى التحفة الفنية وأعطت حياة حتمًا ستبقي للأبد؛ وستظل نوعية هذه الحياة تميز هذا الكائن عن سائر المخلوقات جميعًا! نعم هذه الكائن له وضع استثنائي جدًا، خُلق ليكون سيد ورأس ورئيس، أُبدع وأودع في الأرض ليكون مُمَثِّل للسلطة السرمدية ولتخضع له الخليقة، تم نحته ليكون مشابه صورة خالقه وشبهه. نعم أثار أنامل الصانع العظيم وبصماته على نسيج ذاك المخلوق العجيب!
صديقي الجميل .. الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد يبرز قيمة هذا الكائن الأبدي، رأينا في العهد القديم وعلى أول صفحاته وبين سطوره الأولى كيف خُلق؟ وكيف رُتِبَت له الخليقة حتى يعيش برفاهية؟! والعهد الجديد كما العهد القديم لكن بفارق شاسع وعلى نطاق أوسع وأوضح، يعلن بنور عجيب؛ لا كيف خُلق لكن كيف فُديَّ؟ كانت فديته أعجب من خلقه!! خلقه كلَّف الخالق نسمة حياة ونفخة، لكن فديته كَلَّفت الخالق حياته!!
صديقي الكريم العزيز … نعم الإنسان كريم وعزيز جدًا في عين خالقه، وغالي وقيَّم على قلب مُبدعه، لكني أسمع صوت همهمات صديقنا الماشي الذي تركناه في أول المقال يقول: «هذا حال كل البشر! جميعهم مخلوقين مثل بعضهم البعض؛ ما الفارق؟!، لكن “أنا”، أين “أنا” من خريطة الاهتمام والتقدير؟!» لك حق ظاهري، تريد أن تتأكد من قيمتك بصورة فردية لا جماعية، كلنا هذا الماشي يا صديقي، خلق الله الجميع بكرامة وتقدير، حيث قدم نفسه فدية وكفارة.
لكن يفاجئانا العهد القديم الذي يقدم لنا تعامل الله مع “شعب مختار” أن الله يتعامل مع البشر فرادى، يقول الوحي المقدس في الخروج: فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «هذَا الأَمْرُ أَيْضًا الَّذِي تَكَلَّمْتَ عَنْهُ أَفْعَلُهُ، لأَنَّكَ وَجَدْتَ نِعْمَةً فِي عَيْنَيَّ، وَعَرَفْتُكَ بِاسْمِكَ» الله العظيم يعرف موسى باسمه وهذا يعني معرفة الله لهذا الإنسان بتفاصيله الدقيقة، وفي العهد الجديد يخبرنا بموقف إلهي عجيب أيضًا يقول المسيح لشخص لم يراه من قبل: «هُوَذَا إِسْرَائِيلِيٌّ حَقًّا لاَ غِشَّ فِيهِ» نعم الموقف يشهد للاهوت المسيح؛ لكن يعلن اهتمام الرب يسوع بتفاصيل نثنائيل الذي لم يراه قط من قبل، وهذا ما جعل نثنائيل يسأل المسيح سؤال في غاية الأهمية: «قَالَ لَهُ نَثَنَائِيلُ: «مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُنِي؟»، نعم.. من أين تعرفه يا رب وأنت لم تقابله؟! وهذا أثار حفيظة نثنائيل، فكانت إجابة الرب يسوع لطفية رقيقة مريحة.. أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «قَبْلَ أَنْ دَعَاكَ فِيلُبُّسُ وَأَنْتَ تَحْتَ التِّينَةِ، رَأَيْتُكَ»، عندما كان نثنائيل في وحدة تامة، بين طيات أفكاره يسكن، كان هناك بجواره العالي المرتفع لكنه القريب الودود يشعر به وعلى مقربة منه. ارجوا أن تتأمل في هذه المشهد الملهم.
صديقي العزيز الكريم .. نحتاج جميعًا مثل صديقنا “الماشي” عابثًا، وأختنا “ليئة” المتألمة، لمَن يُخبرني بقيمتي، ويؤكد لي على ذلك، ويظل يحافظ عليَّ في دائرة القيمة، كل ما عليك أن تسند رأسك على صدر المسيح كما فعل يوحنا الحبيب، لتسمع نبضات المحبة والتقدير تدق برفق وتنطق باسمك تحديدًا .. لا تبحث يا صديقي عن القيمة بين مَن يبحثون هم أيضًا عنها!! فاقد المعنى لا يستطيع منحه لآخر، فاقد القيمة كيف يعطيها، حوِّل عينيك كلتيهما بالكامل عن الإنسان الذي في آنفه نسمة، وارفعها إلى الجبال الشاهقة والمرتفعات العالية لترى مَن نزل مِن هناك لخلاصك أنت شخصيًا.