الدرس الثالث عشر: هل الله صالح؟ وإلى أي مدى نحن مدركون صلاح الله؟ ولماذا إبليس يحاول مرارا تشويه صورة الله؟
قد يظن كثيرون أن الله غامض، غير مفهوم، طُرقُه وتعاملاتُه مع الإنسان غير واضحة، فيتعاملون مع كل ما يحدث في حياتهم، بمبدأ التحليل والاستنتاج، الذي كثيرًا ما يقودهم لأفكارٍ خاطئة عنه.
الحقيقة أن الله لم يترك الإنسان للتخمينات والظنون، “هَادِمِينَ ظُنُونًا وَكُلَّ عُلْوٍ يَرْتَفِعُ ضِدَّ مَعْرِفَةِ اللهِ” (رسالة كورنثوس الثانية 10: 5)، بل يدعونا عبر كلمته أن نهدم كل أسوار وحواجز تكونت في أذهاننا ضد معرفته بشكلٍ حقيقي.
أعطى الله فِكره للإنسان في الكتاب المقدس (كلمة الله)؛ ليُعلن له عن مشيئته، وطُرُقه، وما يُحبه، وما يفعله، ومكانة الإنسان لديه. “وَأَمَّا نَحْنُ، فَلَنَا فِكْرُ الْمَسِيح” (رسالة كورنثوس الأولى 2 : 16) ، وهذه الآية تتحدث بوضوح عن أن فِكر الإله لم يعد مخفيًّا عن الإنسان.
الله صالح، لكن دعونا أولا نضع تعريفًا لمفهوم الصلاح.. ببساطة مفهوم صلاح الله يمكن تلخيصه في كل ما هو جيد، وفيه خيرٌ للإنسان ومصلحته، بما يقوده لحياةٍ أفضل، وينقله من الظلام والخوف والوجع، للنور والاطمئنان والهدوء، وإشباع القلب.
تكشف لنا كلمة الله بوضوح أن أي شيء فاسد، أو غير صالح، أو قبيح، أو مميت، أو به فشل وأوجاع، ليس من الله نهائيًّا، لأنه إله صالح، يحب الإنسان، ويحترمه، ويُعطيه قيمةً وكرامة؛ لذلك الأمور الجيدة فقط تكون من الله، وهو ثابتٌ لا يتغير أبدًا، هو نبع النور، ولا تخرج منه ظُلمة.
نرى هذا بوضوح في: “كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَارِ، الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ”. (رسالة يعقوب 1 : 17)
الحقيقة أن مفهوم الصلاح لدى الله، لا يختلف عن مفهومه لدى الإنسان، إذ يقول البعض إن ما يراه الإنسان غير صالح، قد يراه الله صالحًا، لكن هذا غير دقيق بالمرة، بمعنى لو هناك طعام فاسد ملوث سيُسبب تسمُّمًا لمَن يأكله، فهو بالتأكيد طعام فاسد أيضًا في نظر الله، كما هو فاسد في نظر الإنسان، هذا بالفطرة، والمنطق والعقل.
مثلًا حادثة مرورية مؤلمة، غرق شخص في المياه، اختناق أشخاص في منزلهم نتيجة تسرب غاز، وهكذا، كلها أمور مؤلمة صعبة في نظر الله، كما هي في نظر الإنسان.
هناك مقولة رائعة لابن رُشد تقول “الله لم يُعطنا عقولًا ليعطينا بعدها شرائع تخالفها”؛ فليس منطقيًّا أن ما نراه ضد العقل والفطرة والمنطق والرحمة والمحبة- التي كلها صفات أوجدها الله بداخلنا- يراه الله صالحًا ومقبولًا.
لا يمكن للنبع الواحد أن يُخرج شيئَين متناقضَين، أو عكس بعضهما، فليس منطقيًّا أو معقولًا أن يُخرج نبع ماء واحد ماءً عذبًا ومُرًّا بنفس الوقت، “لَعَلَّ يَنْبُوعًا يُنْبِعُ مِنْ نَفْسِ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ الْعَذْبَ وَالْمُرَّ؟ ” (رسالة يعقوب 1: 11)
إذًا ما هو صالح (جيد) في نظر الله، لا يتعارض مع ما هو صالح (جيد) في نظر الناس، “فَمَنْ مِنْكُمْ، وَهُوَ أَبٌ، يَسْأَلُهُ ابْنُهُ خُبْزًا، أَفَيُعْطِيهِ حَجَرًا؟ أَوْ سَمَكَةً، أَفَيُعْطِيهِ حَيَّةً بَدَلَ السَّمَكَةِ؟ أَوْ إِذَا سَأَلَهُ بَيْضَةً، أَفَيُعْطِيهِ عَقْرَبًا؟ فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ الآبُ الَّذِي مِنَ السَّمَاءِ”. (إنجيل لوقا 11: 11-13 )
تُوضح هنا كلمات الرب يسوع أنه غير منطقي أن يطلب ابن من أبيه سمكة فيعطيه بدلًا منها حية ضارة مميتة، أو بيضةً فيعطيه مكانها حجارة؛ وبالتأمل في هذا النَّص الكتابي؛ نرى أن ما هو ضار وغير منطقي في نظر الله يتطابق مع ما هو ضار وغير منطقي في نظر الإنسان، حتى الشرير؛ لأن كثيرين يقولون قد تكون هذه البلوى التي أمُرُّ بها، أو هذه الأحداث المميتة، صالحة في نظر الله.
“كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَارِ، الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ”. (رسالة يعقوب 1: 17).
تكشف هذا الآية عن حق رائع كفيل بأن يجيب عن تساؤلات كثيرة، بأن أي شيء صالح وتام وكامل وجميل هو نازل فقط، أو يأتي فقط، من فوق، من السماء، من عند نبع النور كله، هذا الإله الذي لا يتغير أبدًا، فلن يكون اليوم صالحًا، وغدا يضربنا بأمورٍ غير صالحة.
فهذا الإله العظيم الذي خلق كل شيء حسن، “وَرَأَى اللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدًّا” (سفر التكوين 1 :31 )، وخلقنا على صورته ومثاله، لن يفعل أبدًا أي شيء يُخرِّب به خليقته، لا سيما الإنسان، أقرب المخلوقات لقلبه.
“لاَ يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ: «إِنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ اللهِ»، لأَنَّ اللهَ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِالشُّرُورِ، وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَدًا.”(رسالة يعقوب 1 : 13)، وهذا قولٌ فاصِلٌ وواضِحٌ بأن الله لا يُجرب الإنسان أبدًا بالشرور، فلأن لا أحد يمكنه أن يجرب الله، هكذا لن يجرب الله الإنسان.
ليس منطقيًّا أن يُناقض الله نفْسه، فيكون ذلك الإله الذي يضرب الإنسان بالوجع ليُشفق عليه بعدها! يضربه بالحزن والفشل والمرارة ثم يعود ليُفرِّحه ويُنجِحه! يضرب بالأمراض المميتة ليعود فيشفيه! فالله هو نبع الحكمة والثبات، وهو ليس مُصابًا بانفصام ليفعل طول الوقت الشيءَ وعكسَه، رَجُلٌ ذُو رَأْيَيْنِ هُوَ مُتَقَلْقِلٌ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ.”، (رسالة يعقوب 1: 8) وهذه الآية تتحدث عن أن الشخص الذي له طريقة تفكير مزدوجة، هو شخص متذبذب، غير مستقر، غير ثابت، فإن كان هذا ليس منطقيًّا لدى الإنسان، ما بال وبال الله، الرائع العظيم، جلَّ جلالُه.
لا يُمكن أن يكون هذا الإله المحب الحنون هو سبب أوجاع الإنسان، المخلوق أساسًا على صورته ومثاله، في القيمة والحرية والإرداة.
هناك جانبٌ آخر، أن كثيرًا مِمَّا نتعرض له في حياتنا، نحن مسؤولون عنه، ولا دخلَ لله بذلك، مثلًا كثيرٌ جدًا مما نُعانيه من جروح، وزيجات فاشلة، وعَلاقات مؤذية، سببُه أخطاء الإنسان، وعدم وعيه، أو عدم نضوجه، فقد نرتبط ارتباطًا فاشلًا نُعاني فيه المرار؛ لكن هذا بسبب أننا لم نتعلم كيف نختار شريك الحياة بشكل صحيح، وليس الله هو سبب هذا الفشل. قد نُعاني في صداقة بسبب عدم تعلُّمنا معايير صحيحة للعَلاقات. قد نعاني من فشل في العمل بسبب عدم التأهيل الكافي لما نقوم به. كثير أيضًا من الأمراض الجسدية سببها ضغوط عصبية ونفسية.
كذلك كثير جدًّا من الأمراض وراءها تلوث البيئة المتسبب به الإنسان، وراؤها عادات صحية خاطئة، عادات غذائية خاطئة، عدم العناية بالجسد، جشع وعدم ضمير بعض التجار الذي يؤدي لاستخدامهم أطعمة منتهية الصلاحية، أو مواد بناء مغشوشة تؤدي لانهيار عقارات مثلًا!
أيضًا ضمير الإنسان الذي يُخضعه أحيانًا لإبليس؛ فيظلم الإنسان أخاه الإنسان، ويقتل، ويخدع، ويظلم.
لكننا تعلمنا وتربينا ونشأنا على فكرة أن أي شيء يحدث لنا هو بسماح من الله، والله، تعالى وحاشاه، أن يكون سبب كل هذا الفساد الذي يعانيه العالم، إذ تعودنا على إلقاء كامل المسؤولية على الله في حين أننا نقف بسبب عدم المعرفة وراء الكثير جدًّا من أتعابنا، فلا تُلم الله، واجعل كلمة الله هي مرجعيتك، لتفهم منها فكر الله تجاه المواقف المختلفة، وملفات الحياة الكثيرة، “اَلرَّجُلُ الْحَكِيمُ فِي عِزّ، وَذُو الْمَعْرِفَةِ مُتَشَدِّدُ الْقُوَّةِ”. (سفر الأمثال 24: 5).
“إلهي الصالح الحبيب، شكرًا أنك إله واضح، إله لا يُجربني أبدًا بالشرور. شكرًا أنك غير متناقض: لا تفعل الشيءَ وعكسه. أنت ترعاني.. وسأتسلح دائمًا بمعرفة كلمتك التي تضمن لي الحياة الصحيحة” آمين.