إله مُتفاعِل أم صامت مُتكاسِل؟!
ماذا تريد مني يا الله؟!
أين الله؟ أين يسكن؟ هل موجود حقًا؟ لماذا خلقنا؟ هل خلقنا ليستعملنا كأدوات عاقلة لتزين خليقته، أم ببغاوات لتسبيح اسمه؟! هل يريد التواصل معنا؟ ما الدليل؟ وإذا أراد التواصل، فلماذا .. هل يحتاج إلينا؟! وهل لإله يحتاج لبشر؟! صديقي الجميل … إنها أسئلة منطقية جدًا، وتزداد منطقيتها كلما أخذ الإله مكانة وحيز أكبر من المعتاد في تفكيرينا، وعلى الجانب الأخر ازدادنا معرفة لعمق شرنا وخطايانا، ورغبتنا العميقة في البعد عنه. وما يشغلني حقًا هل الله غير المرئي يريد التواصل معي “أنا”، “أنا” بالذات! أنا باسمي، لشخصي دون مسببات خارجية! وما الذي يجذبه فيَّ ليتعامل معي؟ قد يكون أقرب الناس لي؛ لا يدرون بأعمق مشاكلي وأوضحها!! فهل لإله غير مرئي دارٍ بي؟!
حقيقية … أريد أن الله يشعر بي، يعرف ما يجول في خاطري، يتفاعل معي في أموري الكبيرة والصغيرة، ويهتم لما أهتم، يشاركني لحظاتي السعيدة وساعاتي التعيسة. أريده متواجدًا لجواري. أريد عند لقاءنا أحكي له عما يضايقني وعنما ضايقني، سأشاطره أحزاني، سأروي له كيف أذاني والدي، سأتلو القصص والحكايات عن ماضيَّ، سأخبره بأحلامي وأمالي لمستقبل. عندي ما أقصه عليه؛ فهل له ما يحكيه لي؟! وكيف لي أن أراه وأسمعه!! ولو سحمت الفرصة هل أعي قصصه ورواياته. هل أحاديثي ستورق له؟ ما الذي يجمعنا مِن أمور مشتركة ليقابلني ويهتم للقائي؟ وهل حقًا يريد؟ هل يهتم لذلك؟ هل مَن يُدير الكون؛ لديه الوقت لي؟ هل يناسبه أن يدخل معي “أنا” في شركة وعلاقة حقيقية؛ رغم صغري وقلَّتي ومرات تفاهة أموري وبساطة إمكانياتي؟ هل يستمتع باللقاء معي؟
يعلن عن ذاته
يا صديقي الجميل .. إنها تساؤلات وجودية ومنطقية، وسأنطلق معك من قاعدة؛ أرجوا أن تكون مشتركة وهي صحة وسلامة الكتاب المقدس، والقاعدة الثانية الله يعبر ويعلن عن ذاته في صفحات الوحي المقدس، إذا اتفقنا فهيا بنا.
في صفحات الوحي الأولى كتاب التكوين والأصحاح الأول نرى الله مبدعًا، خالقًا جميلاً. في اليوم السادس، اليوم الأخير العظيم مِن أيام الخلق الستة، أبدع الله تاج الخليقة؛ حيث أحسن خلقه وأحسن مخلوقاته وأروعها حسب تقرير الله ذاته. يقول الوحي المقدس بفم الله … وَقَالَ ٱللهُ: «نَعْمَلُ ٱلْإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا،..» التكوين ٢٦:١، وماذا بعد أن خلقه على الصورة والشبه الإلهيين؟!
هل تركه لحاله يسود ويتسلط على باقي المخلوقات، خاصة أن باقي العدد المقدس يقول: «وَقَالَ ٱللهُ: «نَعْمَلُ ٱلْإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا، فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ ٱلْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلْبَهَائِمِ، وَعَلَى كُلِّ ٱلْأَرْضِ، وَعَلَى جَمِيعِ ٱلدَّبَّابَاتِ ٱلَّتِي تَدِبُّ عَلَى ٱلْأَرْضِ» لا لم يحدث؛ بل يخبرنا الوحي في العدد الثامن العشرون أن الله باركهما، نعم لقد سمعا أبوينا الأولين؛ آدم وحواء كلمات البركة من فمه الكريم؛ أول لحن سماوي دخل إلى أذانهما ومنها لعقولهما حيث ملأ هذا اللحن كيانهما وغُرس في ذاكرتهما عن ذاك الإله الذي يُبارك وهذا أول ما سمعا من خالقهما: “مباركين” يالها من كلمات؛ كلمات النعمة الخارجة من شفتي إلهنا المُبَارَك المُبَارِك.
كلمات بركة من فمه
وحيث قال لهما كلمات البركة زاد عليها بركة أخرى؛ كلمات وأقول أخرى تحمل في طياتها مهمات لأيام وسنين و”قال لهم”، ماذا قال؟: «أَثْمِرُوا وَٱكْثُرُوا وَٱمْلَأُوا ٱلْأَرْضَ، وَأَخْضِعُوهَا، وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ ٱلْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى ٱلْأَرْضِ» لقد سمعا بركة الله بالإثمار والكثرة وملء الأرض وإخضاعها والتسلط، ولم يكن أبوينا كالدمى يسمعان البركة دون أن يتحرك لهما ساكن! لكن الطبيعي أن يكون هناك حديث متبادل بين الطرفان. وفي الأصحاح الثاني يوصي الله أبوينا “وَأَوْصَى ٱلرَّبُّ ٱلْإِلَهُ آدَمَ قَائِلًا:” لقد قال الله بوصيته لهما وهما سمعا صوت الله الموصي وهكذا كان في جنة عدن حديث وأحاديث، كلام وكلمات، شركة وعلاقة بدأها الله العلاقاتي. الله إلهنا متفاعل وقريب ومتداخل معنا ليس ذلك فقط بل مبادر أن يقيم شركة معنا.
غرضه من خلق الإنسان!
صديقي الغالي .. الله قادر على وضع وصاياه داخلنا، ولا حاجة له أن يتواصل مع أبوينا ليوصيهما ويسمعهما كلام وأقوال؛ بل هو قادرًا على برمجتهما تلقائيًا دون تواصل وتفاعل واحتكاك مباشر منه ليجعلنا على إدراك ووعي بوصاياه وشريعته. مثلما فعل عندما قام بغرس الضمير في أعماقنا، بل جعل في أعماقنا عيون داخلية تبصر ما وراء المنظور المحسوس به ندرك الحياة ما بعد الموت. لكنه لم يجعلنا عرائس ماريونت، بل فضَّل التواصل المباشر بالصوت والرؤية لأن هذا غرضه من خلقنا!
ما يزيد من إعجابنا بالله الذي بيَّن رغبته في التواصل معنا؛ ما سطره الوحي عن كيفية تعامل الله مع آدم عندما سقط؛ آبونا آدم الهارب من وجه الله، واختفي مِن محضر الله الذي كان الله معتادًا أن يقابله هناك!! يقول الوحي المقدس عن الهروب المشين: «وَسَمِعَا صَوْتَ ٱلرَّبِّ ٱلْإِلَهِ مَاشِيًا فِي ٱلْجَنَّةِ عِنْدَ هُبُوبِ رِيحِ ٱلنَّهَارِ، فَٱخْتَبَأَ آدَمُ وَٱمْرَأَتُهُ مِنْ وَجْهِ ٱلرَّبِّ ٱلْإِلَهِ فِي وَسَطِ شَجَرِ ٱلْجَنَّةِ.» اَلتَّكْوِينُ ٨:٣، الرب الإله كان معتادًا أن يقابل آبوينا في ميعاد عند هبوب ريح النهار، وكانا يسمعا همسات خطوات الرب الإله وهو ماشيًا في مملكتهم التي أبدعها! هل تخيلت يا صديقي هذا الامتياز العجيب!
العِصيان العظيم!
وبعد العصيان العظيم الذي تلاه الهروب المخيف، نسمع ذات الخطوات الإلهية الرقيقة، في ذات موعد اللقاء؛ عند هبوب ريح النهار، نجد الإله ينادي منكسر الفؤاد على الرفيق العاصي، الخليل الخائن، وبصوت يملأه الحزن ينادي: «أين أنت؟!! الله العظيم الكبير يذهب لذات المكان وفي نفس الموعد؛ حيث كان يحلو اللقاء، وتحلو الأحاديث مع ذاك الصديق والخليل لكنه الآن باع! لكن إلهنا لم يبع، ولا تهن عليه العشرة، رغم الخيانة!
صديقي العزيز … قد تؤلمك ظروف الحياة المتقلبة، وترهقك المشاكل المتنوعة، وتستنزفك الضغوط المادية، ويؤول كل هذا لولادة شعور -أكثر إلامً من الألم ذاته وأشد إرهاق من إرهاق المشاكل وأغزر نزفًا من نزيف الضغوط- عميق بغياب الله وإحساس مؤلم بعدم تدخله وقد تصل لنتيجة الله غير مبال.
صديقي الغالي ارجوا ألا تستلم لهذه المشاعر، إنها حرب روحية من عدو كل خير على أفكارك، حتى يأسرك في قبضته، تفكر فيمن ذهب باحثًا عن آبينا آدم حتى وجده، وجده وهو عريان فستر عريه، وخائف فطمأنه، ومختبئ خلف شجرة فأعاده للحياة.
ختاما
على غرار ما ذكره موسى عن أحداث الخلق، يمكننا بقليل من الملاحظة أن نستنتج بوضوح مِن بين سطور الأحداث التاريخية، دون أن نحمِّل النص ما لا يحتمله، رغبة الله الحقيقية في التواصل المباشر معنا، يبهرنا العهد الجديد بإعلان لا يحتاج مننا أن نستنتج كيف وصل الله لنا، ونصب خيمته بيننا، وذاق ذلنا، وتألم ألمنا، وتجرع كأس المرار، وذهب بإرادته في طريق الموت، ورُفِع على صليب العار حتى انطبق عليه كلمات الوحي المقدس: «فَإِذْ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ عَظِيمٌ قَدِ ٱجْتَازَ ٱلسَّمَاوَاتِ، يَسُوعُ ٱبْنُ ٱللهِ.. لِأَنْ لَيْسَ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ غَيْرُ قَادِرٍ أَنْ يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا، بَلْ مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلَا خَطِيَّةٍ. فَلْنَتَقَدَّمْ بِثِقَةٍ إِلَى عَرْشِ ٱلنِّعْمَةِ لِكَيْ نَنَالَ رَحْمَةً وَنَجِدَ نِعْمَةً عَوْنًا فِي حِينِهِ» .. يسوع المسيح.