الدرس الرابع: كثيرون يرون أن البطل في قصة الابن الضال هو الابن الذي ذهب بعيدا، وبعدها قرر ان يرجع إلى أبيه، لكن ماذا عن الأب المحب؟!
تحدثنا في الدروس السابقة عن مفهوم “أبوة الله، وطبيعتها”، وعن “محبة الله غير المشروطة للإنسان”، و”الغفران”؛ وسوف نُقدم لك عزيزي القاريء، في هذا الدرس، وما يليه، نماذج تطبيقية، رائعة، لطبيعة هذه المحبة الإلهية.
قدَّم السيد المسيح، له كل المجد، نموذجَين من أرقى وأسمى أنواع المحبة الأبوية غير المشروطة، في مثلين من واقع الحياة، حدثا، ويحدثان، كثيرا في الحياة.
لكن، قبل الخوض في هذين المثلين، أريدك أن تتأمل معي هذا الموقف البسيط:
لو لديك طفل وحيد، هو أغلى ما في حياتك. هو مَن يرسم الابتسامة الجميلة على وجهك في بداية يومك. هو مَن تشعر بكفايتك من الدنيا عندما تأخذه حانيا بين أحضانك. هو مَن تجد فيه شِبعك ومُتعتك عندما تقدم له محبتك واهتمامك ورعايتك وأبوتك.
هو الذي يملأ عليك “البيت” بضحكه وبكائه ومزاحه و”شقاوته” وأخطائه، وتعليقاته الجميلة عندما يتعلم الكلام، وحركاته عندما يبدأ في تعلُّم المشي!
اسرح معي في “كَم” المحبة والحميمية والدفء و”الغلاوة” والحنين الذي يسكن قلبك تجاه طفلك هذا وحيدك حبيبك!
اسرح معي في كم أنت متعلق به!
وكم أنت تحلم بتوفير أفضل ما يمكنك فعله؛ لأجل أن يحيا حياة إنسانية كريمة، حتى لو على حساب راحتك.
كم أن متسعد أن تعيش لأجله، وتبذل وقتك ومجهودك وسعادتك؛ فقط من أجل بسمة “حُلوة” على وجهه.
أو قُبلة محبة يطبعها على “وجنتيك” قبل أن يخلد للنوم!
هذا ليس شِعرا أو نثرا أو خيال كاتب سينمائي أو مؤلف أغاني!
هذا أقل وأبسط في ما في قلب أي أب أو أم، تجاه طفلها وليدها حبيبها، مهما كان ذلك مُكلفا مُتعبا!
حتى لو كان ثمن ذلك هو “عُمر الأب والأم” الذي يقضيانه في سبيل “إسعاد” ابنهما.
تخيل بعد كل هذه “المكانة والقيمة”، لو “تاه” منك طفلك وحيدك، في يومٍ، وسط زحام الشوارع!
خذ دقائق تأمل في مشاعرك وقتها، حتى لو لم تكن بعد اختبرتَ الأبوة!
تخيل مشاعرك في لحظات الفقد هذه.
ثم تخيل مشاعرك لو وجدته بعد: دقائق.. ساعات.. أيام.. أسابيع أو حتى أشهر قليلة أو كثيرة.
قد تختلف حينها ردود أفعال الناس، ما بين احتضان الطفل بشدة أو توبيخه أو انتهاره أو حتى “ضَرْبه”.
لكن ما سيتفقون عليه جميعا هو “الحُب”!
فجميعهم إن كانو أسوياء، سوف يبكون ويفرحون ويصرخون في نفس التوقيت.
جميعهم سوف يحتضنون ابنهم بمحبة وحميمية وحنين وقبول واشتياق وشكر لله.
حسنا! هذا إن كان طفلا صغير!
لكن ماذا لو كان من تاه منك.. “ابنٌ” في سن الشباب! وقد تركك في لحظات طيش، بعد أن أغواه وضحك عليه “أصدقاء السوء..!”
ماذا سيكون شعورك بعد أن قضيت عمرك في خدمته ومحبته، ثم وجدته ابتعد عنك وهو “مخدوع” و”مضحوك عليه”..؟!
هل ستكرهه؟! هل ستؤذيه؟! هل ستُعيده إليك بالغصب والإجبار والقوة أو حتى العنف؟
هل ستتوقف عن محبته؟! أو التفكير به؟! أو محاولة البحث عنه؟ أم…!
أم سيظل ابنك وحيدك حبيبك؟ وستظل مشتاقا إليه، وسيظل باب قلبك وبيتك ومحبتك مفتوحا له في أي وقت؟!
ثم ماذا لو عاد إليك بعد وقت، وقد اعتذر إليك بندم وصدق، بعد إدراكه لخطئه؟ ماذا سيكون رد فعلك الفطري الأول (الحب أم العقاب)..؟!
سؤال لا تجبني عليه، بل أجب نفسك:
إن كانت هذه “ردة فعلك” لو تاه منك طفلك وحيدك حبيبك ثم وجدته؟! كم ستكون حالتك لو “ضل ابنُك في الحياة”، ثم عاد نادما إليك بصدق!
تخيل معي كم أن (كُل) ما سردناه في الأسطر القليلة السابقة، فِطري تماما، ويتوافق مع الفطرة الإنسانية الطبيعية. وها بالضبط ما سنقرأه الآن في مثل “الابن الضال” الذي شارك به “السيد المسيح”، له كل المجد، الجموع، التي كانت تستمع إليه في إحدى المرات. ربما لا تعرف هذه القصة، وربما سمعت عنها، أو تعرفها جيدا، هيا نقرأها، ثم نخرج بملاحظاتنا. وقد وردت في إنجيل لُوقَا ١١:١٥-٣٢.
وَقَالَ: «إِنْسَانٌ كَانَ لَهُ ٱبْنَانِ. فَقَالَ أَصْغَرُهُمَا لِأَبِيهِ: يَا أَبِي أَعْطِنِي ٱلْقِسْمَ ٱلَّذِي يُصِيبُنِي مِنَ ٱلْمَالِ . فَقَسَمَ لَهُمَا مَعِيشَتَهُ . وَبَعْدَ أَيَّامٍ لَيْسَتْ بِكَثِيرَةٍ جَمَعَ ٱلِٱبْنُ ٱلْأَصْغَرُ كُلَّ شَيْءٍ وَسَافَرَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ، وَهُنَاكَ بَذَّرَ مَالَهُ بِعَيْشٍ مُسْرِفٍ. فَمَضَى وَٱلْتَصَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ ٱلْكُورَةِ، فَأَرْسَلَهُ إِلَى حُقُولِهِ لِيَرْعَى خَنَازِيرَ. وَكَانَ يَشْتَهِي أَنْ يَمْلَأَ بَطْنَهُ مِنَ ٱلْخُرْنُوبِ ٱلَّذِي كَانَتِ ٱلْخَنَازِيرُ تَأْكُلُهُ ، فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ. فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ وَقَالَ: كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لِأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ ٱلْخُبْزُ وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعًا! أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي، أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ، وَلَسْتُ مُسْتَحِقًّا بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ٱبْنًا. اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاكَ. فَقَامَ وَجَاءَ إِلَى أَبِيهِ. وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيدًا رَآهُ أَبُوهُ، فَتَحَنَّنَ وَرَكَضَ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ .فَقَالَ لَهُ ٱلِٱبْنُ: يَا أَبِي، أَخْطَأْتُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ ، وَلَسْتُ مُسْتَحِقًّا بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ٱبْنًا.
فَقَالَ ٱلْأَبُ لِعَبِيدِهِ: أَخْرِجُوا ٱلْحُلَّةَ ٱلْأُولَى وَأَلْبِسُوهُ ، وَٱجْعَلُوا خَاتَمًا فِي يَدِهِ، وَحِذَاءً فِي رِجْلَيْهِ ، وَقَدِّمُوا ٱلْعِجْلَ ٱلْمُسَمَّنَ وَٱذْبَحُوهُ فَنَأْكُلَ وَنَفْرَحَ، لِأَنَّ ٱبْنِي هَذَا كَانَ مَيِّتًا فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالًّا فَوُجِدَ . فَٱبْتَدَأُوا يَفْرَحُونَ. وَكَانَ ٱبْنُهُ ٱلْأَكْبَرُ فِي ٱلْحَقْلِ. فَلَمَّا جَاءَ وَقَرُبَ مِنَ ٱلْبَيْتِ، سَمِعَ صَوْتَ آلَاتِ طَرَبٍ وَرَقْصًا. فَدَعَا وَاحِدًا مِنَ ٱلْغِلْمَانِ وَسَأَلَهُ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هَذَا؟ فَقَالَ لَهُ: أَخُوكَ جَاءَ فَذَبَحَ أَبُوكَ ٱلْعِجْلَ ٱلْمُسَمَّنَ، لِأَنَّهُ قَبِلَهُ سَالِمًا. فَغَضِبَ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَدْخُلَ. فَخَرَجَ أَبُوهُ يَطْلُبُ إِلَيْهِ. فَأَجَابَ وَقَالَ لِأَبِيهِ: هَا أَنَا أَخْدِمُكَ سِنِينَ هَذَا عَدَدُهَا، وَقَطُّ لَمْ أَتَجَاوَزْ وَصِيَّتَكَ، وَجَدْيًا لَمْ تُعْطِنِي قَطُّ لِأَفْرَحَ مَعَ أَصْدِقَائِي. وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَ ٱبْنُكَ هَذَا ٱلَّذِي أَكَلَ مَعِيشَتَكَ مَعَ ٱلزَّوَانِي، ذَبَحْتَ لَهُ ٱلْعِجْلَ ٱلْمُسَمَّنَ! فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ أَنْتَ مَعِي فِي كُلِّ حِينٍ، وَكُلُّ مَا لِي فَهُوَ لَكَ. وَلَكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ نَفْرَحَ وَنُسَرَّ، لِأَنَّ أَخَاكَ هَذَا كَانَ مَيِّتًا فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالًّا فَوُجِدَ ».
ضرب الرب يسوع هذا المثل للجموع؛ ليُزيل الستار، ويكشف بكل وضوح، وسهولة، عن ردة فعل الله “الآب” تجاه أخطائنا: أثناء الخطأ، وبعد الرجوع عنه!
من هذه القصة يمكن أن نُلاحظ:
ختامًا.. دعني أوضح لك بعض ملاحظات سريعة عن “أمثال الرب يسوع”:
وهذا أعطانا لمحة سريعة، تُزيل جزءا جديدا من الغموض الذي كنا نتصوره، حول شخصية الله:
أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ هكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي السَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارًّا لاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَوْبَةٍ.” (لوقا 15: 7). تكشف لنا هذه الآية عن جانب مضيء مبهر في محبة الله، وهي أن السماء بأكملها، بكل ملائكتها وقديسيها، وكائناتها النورانية، يفرحون لو خاطيء واحد، تاب وعاد إلى الله، وهذا يوضح كم أن حُب الله للإنسان، لا يُمكن وصفه أو التعبير عنه بكلمات بشرية محدودة!
مين زيك إنت
مين في جمالك
مين فى حلاوتك
يايسوع
غنى غنى
أغنيات محبتك على قلبى
حبيبي حبيبى
أبرع جمال من كل الناس
حبيبى
شاركنا بموقف قدمت فيه لشخص غالٍ عليك محبة وقبولا في عز ضعفه وأخطائه تجاهك.. قُم بتصرف فيه “محبة عَمدية” و”قبول” تجاه شخص أخطأ إليك وأنت مجروحٌ منه.
(إلهنا الحبيب الصالح، لا زال عقلي الصغير يحاول استيعاب محبتك، وأبوتك الغامرة، التي أنا مندهش من شدتها وعمقها. كم أنا الآن أشعر بالأمان والراحة والطمأنينة، أني بين يدي إله وأب، ليس متقلب المِزاج، ليس قاسيا، ليس قاضيا عنيفا متجهما، لا يفكر إلا في الانتقام، والأخذ بالثأر من المخطئين. الآن تيقنت، وأتيقن، أنك لست متعطشا للعقاب والإيذاء، محبا للإنتقام بل ملآن حبا ورحمة وأبوة ورفقا وتفهُّما. أحبك أبي، في اسم المسيح أصلي.. آمين.)